"من أين تأتي الثقافة؟ أمن المجتمع؟ أم من التاريخ؟ أم من الدين؟ أم من عمليات التفاعل بين الأفراد وبينهم وبين البيئة؟ هل يكتسب الإنسان القيم والعادات والتقاليد أم ينتجها؟ هل يكتفي باكتسابها أم يضيف عليها ويعدلها؟ هل تأتي الثقافة من القيم والعادات أم أن القيم والعادات هي التي تأتي من الثقافة؟"، هذه أسئلة شكلت محور اهتمام علماء الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، ليس فقط طيلة القرن الماضي، بل منذ أواخر القرن التاسع عشر الذي يعد بحق عصر ازدهار الأنثروبولوجيا والدراسات الثقافية الاستكشافية عموماً. ومع بداية ما يصطلح على تسميته اليوم بـ"عصر العولمة" ما زالت أيضاً الثقافة والدراسات الاجتماعية المرتبطة بها تستقطب كثيراً من الجهد العلمي والتنظير، خاصة لجهة إثارة احتمالات "صراع الحضارات" والثقافات، أم حوارها. مثل هذه القضايا هي ما يأخذ بأيدينا للوقوف عليه كتاب: "سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والإشكاليات.. من الحداثة إلى العولمة" للدكتور عبدالغني عماد، والذي نقترح عرضاً سريعاً له، في المساحة التالية. وفي البداية ينطلق الكاتب من إشكالية تعريف الثقافة نفسها، مبرزاً الدلالات التي اكتستها ككلمة وكمفهوم، ساعياً في الوقت نفسه إلى وضع خطوط فصل واضحة بين حدي ثنائية "الثقافة والحضارة"، وهي مسألة طالما شغلت بال علماء الإناسة منذ قرابة القرنين. ويتوقف الكتاب مع هنا اتجاهين عامين في تعريف الثقافة عموماً، أحدهما ينظر إليها "على أنها تتكون من المعتقدات والقيم والمعايير والرموز والإيديولوجيات وغيرها من المنتجات العقلية". في حين يربطها الاتجاه الثاني بـ"نمط الحياة الكلي لمجتمع ما، والعلاقات التي تربط بين أفراده، وتوجهات هؤلاء الأفراد في حياتهم". والحاصل أن تعريف الثقافة لا يمكن أن يكون، والحال هذه، جامعاً مانعاً أو نهائياً متفقاً عليه، وإنما يمكن رسم خطوط عامة عنه في سياقات ثلاثة، هي التحيزات الثقافية، والعلاقات الاجتماعية، وأنماط وأساليب الحياة عند الناس المنتجين للثقافة المعنية. ثم ينطلق الكاتب في الفصول اللاحقة في عرض واسع لمختلف المقاربات المعرفية والمنهجية التي تم التعامل بها مع الثقافة سواء في الأنثروبولوجيا أم في بقية الدراسات الإنسانية الأخرى. وأولى المقاربات هي "المقاربة الأنثروبولوجية"، التي تنقسم هي الأخرى بحسب المنهج إلى اتجاهات عديدة، فمنها اتجاه ركز على الثقافة باعتبارها تجلياً للتاريخ الثقافي وكان من أبرز ممثليه الأنثروبولوجيين بواز وهرسكوفيتش. واتجاه آخر ركز على علاقة الثقافة بالشخصية والقيم، ونجد تطبيقاً له في أعمال سابير، ومارغريت ميد. أما الاتجاه الثالث فيستلهم نظريات الاتصال الحديثة خاصة الدراسات اللسانية، لمقاربة الثقافة، وأشهر ممثليه الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس. هذا في حين أن الاتجاه الرابع والأخير استند إلى التحليل الوظيفي، وكان رائده مالينوفسكي. ويضاف إلى هذه المدارس والاتجاهات المختلفة في التعامل مع ظاهرة الثقافة، ما يسمى بالأنثروبولوجيا الجديدة، التي تهتم أساساً بظاهرة "المثاقفة"، أي تبادل التأثر والتأثير في المجال الثقافي، بين الثقافات المختلفة، وأيضاً بين الثقافة والبيئة. وبعد المقاربة الأنثروبولوجية يتوقف الدكتور عبدالغني عماد في كتابه عند ما سماه "المقاربة الإيديولوجية"، والحقيقة أن مفهوم "الإيديولوجيا" نفسه "من أكثر المفاهيم شيوعاً، لكن معناه من أكثر المعاني إثارة للجدل". ولذلك "يذهب الكتاب إلى تفكيك مفهوم الإيديولوجيا مع عبدالله العروي إلى ثلاثة معانٍ ومجالات: مجال الطرح السياسي. ومجال الاجتماعيات. ومجال الإبيستيمولوجيا أو نظرية المعرفة". وقد اشتهرت المدرسة الماركسية خاصة بالاشتغال على العلاقة بين الثقافة والإيديولوجيا، كما اشتهرت في هذا المجال أعمال عالم الاجتماع الألماني كارل مانهايم، والإيطالي أنطونيو غرامشي، وأيضاً الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير، خاصة تمييز هذا الأخير بين أنماط الإيديولوجيا "الكلية" و"الجزئية"، وصلتها بالثقافة. أما المقاربة الثالثة للثقافة، وهي الأهم في الواقع هنا، فهي المقاربة الاجتماعية السوسيولوجية. فقد "قام العديد من السوسيولوجيين بتفتيت الكليات الكبرى للثقافة إلى وحدات أطلق عليها "السمات الثقافية"، وهي تعمل ككليات مشكّلة من اعتمادات كبرى متفاعلة في ما بينها يطلق عليها "الأنماط الثقافية".. فالسمات لا تعمل في حالة عزلة بعضها عن بعض، بل تتحد مع غيرها لتشكل نمطاً يعمل ككل متضامن. وتدرس سوسيولوجيا الثقافة التشابهات داخل هذه الأنماط، وهو ما يطلق عليه "الأنماط العامة للثقافة". وعلى العموم فإن المقاربة الاجتماعية للثقافة حسبما يقول عالم الاجتماع الفرنسي أميل دوركايم هي التي تركز على الأبعاد غير الفردية في إنتاج واستهلاك السمات الثقافية، ذلك أن البعد الجمعي للثقافة هو الذي عن طريقه تتم عملية "التكامل الثقافي". فـ"النظم الاجتماعية ذات خاصية إلزامية تفرض نفسها على الأفراد وتجبرهم على طاعتها، وهذه الخاصية مستمدة من المجتمع ممثلاً في "العقل الجمعي".. إن الجماعة تفكر وتسلك وتشعر بشكل يختلف تماماً عن أفرادها إذا كانوا منفردين.. لذلك ينبغي دراسة هذه السمات في تكاملها رغم كثرتها وتعددها لأنها في النهاية ليست مستقلة أو منعزلة". ويصل الكاتب في نهاية بحثه، بعد أن تقصى جوانب مختلفة من موضوعة درسه، إلى مستقبل النظرة إلى الثقافة مفهومياً وواقعياً، وأيضاً المقاربات الحالية والمستقبلية المتعلقة بهذا الواقع. فيلتفت أولاً إلى أفق ثقافة "الحداثة" و"ما بعد الحداثة"، وآليات الدرس السوسيو- ثقافي في تعامله مع المجتمع الصناعي وخصائصه الثقافية. وهنا يستدعي الكاتب أطروحات المفكرين الفرنسيين آلان تورين وفرانسوا ليوتار، خاصة منها تلك المتعلقة بنقد وكشف أوهام عصر الحداثة. أما في آخر الكتاب فـ"يطرح إشكالية عصر العولمة ومسألة تزييف الثقافة وأدلجتها، مستعرضاً بطريقة نقدية ثلاثة نماذج، الأول يتمثل بما قدمه فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ، والثاني يتمثل بأطروحة ألفين توفلر حول ثالوث المعرفة والعنف والثروة.. والثالث يتمثل بالأطروحة الشهيرة لصموئيل هانتنغتون حول صدام الحضارات"، وهنا يكون الكاتب قد وصل إلى "مربط الفرس"، أي إشكالية الثقافة والتعدد في أكثر تجلياتها عالمية وراهنية، وإثارة للتوتر أيضاً. حسن ولد المختار الكتاب: سوسيولوجيا الثقافة: المفاهيم والإشكاليات... من الحداثة إلى العولمة المؤلف: د. عبدالغني عماد الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية تاريخ النشر: 2006